د. عقيل الفتلي
دمرت مدينة نيسابور في الموجة الاولى من الغزو المغولي الهمجي على يد جنكيز خان وكانت مركزا للعلماء والفلاسفة والشعراء وكان من بين هؤلاء نصير الدين الطوسي ( ١٠٢١ - ١٢٧٤)،وقدر الله تعالى له ان يسلم الطوسي من المغول فهرب من نيسابور والتجأ الى قلعة من قلاع الاسماعيلية هي ( قلعة آلموت ) وفي الموجة الثانية من الغزو المغولي على يد هولاكو سقطت قلعة آلموت فقتل من كان فيها الا ثلاثة اشخاص طبيبان وهما( موفق الدولة ورئيس الدولة ) وكذلك نصير الدين الطوسي لعلو كعبه في علم الفلك الذي كان يعد من العلوم العسكرية المساعدة
وكان الطوسي كما يقول عنه مؤرخوه( ذا فكر منظم يعرف كيف يخطط ويدبر وقد أدرك إن النصر العسكري على المغول غير ممكن أبدا فقد إنحل نظام العالم الاسلامي إنحلالا تاماً. ولكن - ونظرا لغربة المغول على العلم والحضارة أيقن نصير الدين بإمكانية النصر الفكري عليهم ).
وعلى هذا قرر نصير الدين ان تكون الهجمة المضادة على المغول بسلاح العلم ولما كان نصير الدين يعرف مبلغ حب هولاكو لعلم الفلك فقد أقنعه أولا بوجوب استنقاذ كتب الفلك
والعلوم المتصلة بها والعلماء العاملين في الفلك في البلاد التي فتحها هولاكو فوافقه الخان على ذلك ، وإغتنم نصير الدين هذه الموافقة فأرسل من يجمع له هذه الكتب من أرجاء الامبراطورية المغولية وبخاصة من بقايا قلاع الاسماعيليين فجمع منها أشياء كثيرة .
ادارة الاوقاف
كانت الخطوة التالية التي خطاها الطوسي هي إقناع هولاكو بأن يعهد اليه بإدارة الاوقاف الاسلامية والتصرف بمواردها كيفما إجتهد فأقره هولاكو على ماأراد ثم جاءت الخطوة الانقلابية الكبرى التي إتخذها الطوسي في (تجديد الحياة العقلية في المجتمع الاسلامي ) .
لقد نظر الطوسي حوله فوجد ان الحياة العقلية في المجتمع الاسلامي قد إنحطت إنحطاطا شديدا وان الناس لم يعودوا يعنون بالعلم الا بدراسة الفقه والحديث وحرموا ما عداهما على قاعدة( من تفلسف فقد تمنطق ومن تمنطق فقد تزندق).
فتح مدارس
وعلى هذا عزم الطوسي على تغيير مجرى الحياة العلمية من الاتجاه المغرق في السلفية والتقليد الى العقلانية والتجديد فأعلن عن فتح مدارس لعلوم الطب والفلسفة والفلك والفقه والحديث والتزم بالانفاق على طلبة العلم (التعليم الركن الرئيس من التنمية المستدامة أدركها بثاقب بصيرته ) ولكنه بنباهته ودهائه قرر ان يستعمل هذه المدارس لاحداث ثورة ثقافية في المجتمع الاسلامي ليصله بماضيه العلمي قبل الغزو المغولي ولهذا قرر ان يصرف لكل طالب من طلاب الفلسفة ثلاثة دراهم في اليوم ولكل طالب طب درهمين في اليوم ولكل من يدرس الفقه درهما ومن يدرس الحديث نصف درهم في اليوم. فأقبل الناس على معاهد الفلسفة والطب بعد إن كانت تدرس سراً .
مرصد فلكي
وبعد ذلك أقنع هولاكو بضرورة إنشاء مرصد فلكي كبير فوافقه هولاكو على ذلك وفعلا أقيم المرصد في مدينة مراغة عاصمة هولاكو في أذربيجان والحقت به مكتبة بلغ تعداد مجلداتها(400000) اربعمائة الف مجلد وكذلك لاحظ الطوسي تمزق الامة الاسلامية بالطائفية وانها من هزيمتهم أمام المغول قرر أن يكون مرصد مراغة جامعة تضم علماء المسلمين بصرف النظر عن مذاهبهم الدينية . وأقنع هولاكو بضرورة جمع العلماء المسلمين من المتخصصين في علوم الفلك ومتعلقاته من العلوم من كافة أرجاء العالم الاسلامي ليتمكوا من إدارة المرصد وتشغيله بكفاية عالية وإجادة .
جمع شمل العلماء
اختار الطوسي رجلا حكيما هو( فخر الدين لقمان بن عبدالله المراغي وعهد اليه الطواف في بلاد المسلمين ودعوة العلماء المسلمين المبرزين للعمل في المرصد .وذهب رسوله الى فخرالدين الى اربيل والموصل والجزيرة وبلاد الشام داعيا العلماء الى المؤسسة العلمية الجديدة فلبى دعوته خلق كثير من العلماء جاءوا من دمشق وقزوين وتفليس ومصر وبلاد المغرب التي جاء منها الفلكي المغربي المشهور( يحيى بن أبي الشكر المغربي ) الذي اختاره نصير الدين واحدا من ستة أفراد تألفت منهم الهيئة العليا المشرفة على إدارة المرصد .
وكان في طليعة القادمين من دمشق ( مؤيد الدين العرضي )الذي ترك لنا رسالة مفصلة في وصف مرصد مراغة وإدارته وتحدث عن الشيخ الطوسي فجاء ببعض ما فيها( ... نصير الدين جمع العلماء اليه وضم شملهم بوافر عطائه وكان أرأف بهم من الوالد على ولده فكنا برؤيته فرحين وفي ظله آمنين)لقد كان من آثار هذه الثورة العلمية التي قادها نصير الدين الطوسي إنه عندما توفي هولاكو( ٦٦٣هج - ١٢٦٥م) وخلفه بعد ابنه الاول ابنه الثاني الامير ( تكودار) وكان واقعا تحت تأثير هذه الثورة العلمية وشغوفا بها وبسببها اقنع بالدين الاسلامي واعتنقه بإسم( أحمد تكودار ) وأمر بدخول المغول كلهم في الاسلام أيضا .
وهكذا إستطاعت الامة المغلوبة عسكريا( المسلمون ) أن تنقلب الى أمة غالبة بفكرها ولغتها وثقافتها .
دروس وعبر
تحمل تجربة الطوسي لنا اكثر من درس ينبغي ان نعيه وننتفع به عند بناء فلسفة تربوية جديدة بعد سقوط النظام الدكتاتوري الشمولي وتهافت تنظيراته وفي ضوء تداعيات الاحتلال وما صاحبته من إختلالات فأن العلوم التي تساعد الامم على الارتقاء والتقدم هي العلوم التطبيقية والصرفة التي تربط الامة بالواقع بعقلانية لا بطوباويات وانشاءات وافكار غائمة ، وإن لا تلغي هذه العلوم جدوى العلوم الاخرى التي لها قيم أخلاقية او روحية وانما هي لتعززها ، وكذلك إن النصر يمكن أن يتخذ أكثر من صورة وأن يتشكل بأكثر من شكل واحد ، فالثورة العلمية التي قادها الطوسي إنتهت الى إحتواء المغول وإندماجهم في الثقافة الاسلامية والعربية فهي لم تقل قيمة عن النصر العسكري للمغول في بداية الامر.
ونجد إن قول مؤيد الدين الدمشقي العرضي : ( إن نصير الدين
الطوسي كان أرأف بالعلماء من الوالد على ولده فكنا برؤيته فرحين وفي ظله آمنين ) - كما مر بنا سابقا - يحمل إشارة واضحة على إن ( الحرية والامن ) هما شرطا الابداع العلمي بالنسبة للعلماء وإن الابداع لن يحصل في ظل الخوف أو الارهاب أو الاهانة .
واخيراً إن قوة الامم في رغبتها بالتجاوز تتأتى بالدرجة الاولى من التسامي والقفز فوق الصغائر كالطائفية البغيضة التي تجاوزها الطوسي في مؤسسة مراغة العلمية عندما جمع علماء الامة بصرف النظر عن مذاهبهم .

دمرت مدينة نيسابور في الموجة الاولى من الغزو المغولي الهمجي على يد جنكيز خان وكانت مركزا للعلماء والفلاسفة والشعراء وكان من بين هؤلاء نصير الدين الطوسي ( ١٠٢١ - ١٢٧٤)،وقدر الله تعالى له ان يسلم الطوسي من المغول فهرب من نيسابور والتجأ الى قلعة من قلاع الاسماعيلية هي ( قلعة آلموت ) وفي الموجة الثانية من الغزو المغولي على يد هولاكو سقطت قلعة آلموت فقتل من كان فيها الا ثلاثة اشخاص طبيبان وهما( موفق الدولة ورئيس الدولة ) وكذلك نصير الدين الطوسي لعلو كعبه في علم الفلك الذي كان يعد من العلوم العسكرية المساعدة
وكان الطوسي كما يقول عنه مؤرخوه( ذا فكر منظم يعرف كيف يخطط ويدبر وقد أدرك إن النصر العسكري على المغول غير ممكن أبدا فقد إنحل نظام العالم الاسلامي إنحلالا تاماً. ولكن - ونظرا لغربة المغول على العلم والحضارة أيقن نصير الدين بإمكانية النصر الفكري عليهم ).
وعلى هذا قرر نصير الدين ان تكون الهجمة المضادة على المغول بسلاح العلم ولما كان نصير الدين يعرف مبلغ حب هولاكو لعلم الفلك فقد أقنعه أولا بوجوب استنقاذ كتب الفلك
والعلوم المتصلة بها والعلماء العاملين في الفلك في البلاد التي فتحها هولاكو فوافقه الخان على ذلك ، وإغتنم نصير الدين هذه الموافقة فأرسل من يجمع له هذه الكتب من أرجاء الامبراطورية المغولية وبخاصة من بقايا قلاع الاسماعيليين فجمع منها أشياء كثيرة .
ادارة الاوقاف
كانت الخطوة التالية التي خطاها الطوسي هي إقناع هولاكو بأن يعهد اليه بإدارة الاوقاف الاسلامية والتصرف بمواردها كيفما إجتهد فأقره هولاكو على ماأراد ثم جاءت الخطوة الانقلابية الكبرى التي إتخذها الطوسي في (تجديد الحياة العقلية في المجتمع الاسلامي ) .
لقد نظر الطوسي حوله فوجد ان الحياة العقلية في المجتمع الاسلامي قد إنحطت إنحطاطا شديدا وان الناس لم يعودوا يعنون بالعلم الا بدراسة الفقه والحديث وحرموا ما عداهما على قاعدة( من تفلسف فقد تمنطق ومن تمنطق فقد تزندق).
فتح مدارس
وعلى هذا عزم الطوسي على تغيير مجرى الحياة العلمية من الاتجاه المغرق في السلفية والتقليد الى العقلانية والتجديد فأعلن عن فتح مدارس لعلوم الطب والفلسفة والفلك والفقه والحديث والتزم بالانفاق على طلبة العلم (التعليم الركن الرئيس من التنمية المستدامة أدركها بثاقب بصيرته ) ولكنه بنباهته ودهائه قرر ان يستعمل هذه المدارس لاحداث ثورة ثقافية في المجتمع الاسلامي ليصله بماضيه العلمي قبل الغزو المغولي ولهذا قرر ان يصرف لكل طالب من طلاب الفلسفة ثلاثة دراهم في اليوم ولكل طالب طب درهمين في اليوم ولكل من يدرس الفقه درهما ومن يدرس الحديث نصف درهم في اليوم. فأقبل الناس على معاهد الفلسفة والطب بعد إن كانت تدرس سراً .
مرصد فلكي
وبعد ذلك أقنع هولاكو بضرورة إنشاء مرصد فلكي كبير فوافقه هولاكو على ذلك وفعلا أقيم المرصد في مدينة مراغة عاصمة هولاكو في أذربيجان والحقت به مكتبة بلغ تعداد مجلداتها(400000) اربعمائة الف مجلد وكذلك لاحظ الطوسي تمزق الامة الاسلامية بالطائفية وانها من هزيمتهم أمام المغول قرر أن يكون مرصد مراغة جامعة تضم علماء المسلمين بصرف النظر عن مذاهبهم الدينية . وأقنع هولاكو بضرورة جمع العلماء المسلمين من المتخصصين في علوم الفلك ومتعلقاته من العلوم من كافة أرجاء العالم الاسلامي ليتمكوا من إدارة المرصد وتشغيله بكفاية عالية وإجادة .
جمع شمل العلماء
اختار الطوسي رجلا حكيما هو( فخر الدين لقمان بن عبدالله المراغي وعهد اليه الطواف في بلاد المسلمين ودعوة العلماء المسلمين المبرزين للعمل في المرصد .وذهب رسوله الى فخرالدين الى اربيل والموصل والجزيرة وبلاد الشام داعيا العلماء الى المؤسسة العلمية الجديدة فلبى دعوته خلق كثير من العلماء جاءوا من دمشق وقزوين وتفليس ومصر وبلاد المغرب التي جاء منها الفلكي المغربي المشهور( يحيى بن أبي الشكر المغربي ) الذي اختاره نصير الدين واحدا من ستة أفراد تألفت منهم الهيئة العليا المشرفة على إدارة المرصد .
وكان في طليعة القادمين من دمشق ( مؤيد الدين العرضي )الذي ترك لنا رسالة مفصلة في وصف مرصد مراغة وإدارته وتحدث عن الشيخ الطوسي فجاء ببعض ما فيها( ... نصير الدين جمع العلماء اليه وضم شملهم بوافر عطائه وكان أرأف بهم من الوالد على ولده فكنا برؤيته فرحين وفي ظله آمنين)لقد كان من آثار هذه الثورة العلمية التي قادها نصير الدين الطوسي إنه عندما توفي هولاكو( ٦٦٣هج - ١٢٦٥م) وخلفه بعد ابنه الاول ابنه الثاني الامير ( تكودار) وكان واقعا تحت تأثير هذه الثورة العلمية وشغوفا بها وبسببها اقنع بالدين الاسلامي واعتنقه بإسم( أحمد تكودار ) وأمر بدخول المغول كلهم في الاسلام أيضا .
وهكذا إستطاعت الامة المغلوبة عسكريا( المسلمون ) أن تنقلب الى أمة غالبة بفكرها ولغتها وثقافتها .
دروس وعبر
تحمل تجربة الطوسي لنا اكثر من درس ينبغي ان نعيه وننتفع به عند بناء فلسفة تربوية جديدة بعد سقوط النظام الدكتاتوري الشمولي وتهافت تنظيراته وفي ضوء تداعيات الاحتلال وما صاحبته من إختلالات فأن العلوم التي تساعد الامم على الارتقاء والتقدم هي العلوم التطبيقية والصرفة التي تربط الامة بالواقع بعقلانية لا بطوباويات وانشاءات وافكار غائمة ، وإن لا تلغي هذه العلوم جدوى العلوم الاخرى التي لها قيم أخلاقية او روحية وانما هي لتعززها ، وكذلك إن النصر يمكن أن يتخذ أكثر من صورة وأن يتشكل بأكثر من شكل واحد ، فالثورة العلمية التي قادها الطوسي إنتهت الى إحتواء المغول وإندماجهم في الثقافة الاسلامية والعربية فهي لم تقل قيمة عن النصر العسكري للمغول في بداية الامر.
ونجد إن قول مؤيد الدين الدمشقي العرضي : ( إن نصير الدين
الطوسي كان أرأف بالعلماء من الوالد على ولده فكنا برؤيته فرحين وفي ظله آمنين ) - كما مر بنا سابقا - يحمل إشارة واضحة على إن ( الحرية والامن ) هما شرطا الابداع العلمي بالنسبة للعلماء وإن الابداع لن يحصل في ظل الخوف أو الارهاب أو الاهانة .
واخيراً إن قوة الامم في رغبتها بالتجاوز تتأتى بالدرجة الاولى من التسامي والقفز فوق الصغائر كالطائفية البغيضة التي تجاوزها الطوسي في مؤسسة مراغة العلمية عندما جمع علماء الامة بصرف النظر عن مذاهبهم .

ليست هناك تعليقات: