أطياف
رشيد
يعتبر
الكاتب صباح الانباري اول من وضع أسس كتابة المسرحيات الصامتة كجنس ادبي له مقوماته
وخصوصياته التي حددها من خلال مقالاته وكتاباته النقدية ونصوصه التي جسد فيها حلمه
في ان يجد المساحة الأدبية التي تناسب طموحاته واحلامه ، فالنص الصامت لابد ان يمتلك القدرة على
المزاوجة بين فنين عريقين هما القصة والمسرح ، مهتما جدا بالطاقة الكامنة في الايماءة
والحركة وامكانية تحول الشكل القصصي الى الشكل الدرامي الصامت
دون الحاجة الى الاستعانة بالحوار والكلمات ، كما اعتمد بكثير من نصوصه على الصوت ولكن
ليس الصوت البشري بل هي ضربات الصنج والصراخ والبرق والموسيقى وأيضا صراخ الحشود ،
كل ذلك كان في خدمة نصوصه ،بل في خدمة مشروعه الادبي وهو مشروع تفرد وتميز باصرار ومثابرة
الكاتب .
الذاكرة الخارقة
ومسرح
الانباري هو ( المسرح الذي يفعل الداخل الإنساني المهمل ويحاول ان يركز على الذاكرة
الخارقة التي تستفز المدرك العقلي بعد توظيفها لمنظومة حركية ذات دلالات معرفية تؤسس
مرتكزاتها المعرفية في رؤيته لمفهوم خطابها من خلال رسومات اشتغالها الايمائي الفاعل
الذي رسمه المؤلف او المخرج في آلية خلق الطاقة الداخلية لدى الممثل ) .
الحركة والفعل
اذن
النصوص الصوامت هي نصوص ترتكز بالأساس على رسم المنظومة الحركية لتفعيل الدلالات وتفجير
المنظومة الادراكية الجاهزة وغرس المعنى المبني وفق تشكيل حركي وانفعالي جمالي دقيق
. اذن نحن امام بناء صوري يعتمد في تخليق معناه ودلالاته على تفجير الطاقة الكامنة
في توجيه الفعل والحركة الصامتة الى منطقة القول ، ولكنه القول عبر صراع دال يتمخض
عنه المعنى في شكل صورة . البناء هذا كما يقول الكاتب صباح الانباري نفسه سوف يعتمد
في اشتغاله ( على التشكيل الصوري واعتماده كأداة من ادواته الأساسية . فالصورة تحتاج
الى فعل ، والفعل يحتاج الى حركة والحركة تتأسس على رغبة وهدف ) .
رسم الشخصيات
وفي
النص قيد القراءة السماح على إيقاع الرصاص يحضر المعنى قويا ضاجا بعنفوان الحركة والفعل
،ويبرز العنوان الكثير مما عمد الكتب ان يشير اليه ، كما ان اختيار نمط الشخصيات الرامز
دفعت بالامكانيات التحليلية للخطاب الصامت الى اقصى حد من التفجير الدلالي . والمسرحية
رسمت الشخصيات بكثير من العناية لتعرف عن نفسها سواء من خلال الوصف لها من قبل الكاتب
او من خلال الحركة والفعل الذين تقوم بهما فتكشف عن ابعادها النفسية والفكرية ،الشخصيات
المرسومة عند اول النص وتلك التي ميزها ضمن الوصف الداخلي للحركة والفعل حددت لنا مسار
اتجاه إيقاع النص ومسار القصة . فالشخصية الأولى : الرجل الأصفر التي ميزها الكاتب
باللون الأصفر ( يرتدي الملابس الصفراء من قمة رأسه الى اخمص قدميه ) هذه الشخصية لتكون
بمثابة الموجه لباقي الشخصيات حينا وبمثابة الراوي للاحداث التاريخية حينا آخر ، ثم
مجموعة من الشيوخ ،مجموعة من الشباب ،الرجل ذو الرأس البيضوي ومجموعة اتباع الرجل الاشداء
وجلادين اثنين .
رقصة الجيلين
يبدأ
النص حين يبدأ الرجل الأصفر يعطي الأوامر برقصة السماح لكلا الفريقين الشيوخ والشباب
من اجل ان يتواصل الجيلان ويندمجا في ردم الفراغ او الخلاف فيما بينهما ، الامر الذي
يجعله يعطي الأوامر ببدء الرقصة أولا للشيوخ وحدهم ثم للشباب وحده ومن ثم يعطي الإشارة
بالرقص معا في إشارة لتواشج العلاقات بين الفريقين / الجيلين ، واندماج أفكارهم وذوبانها
في غمرة رقصة للسماح والمحبة ، حيث ( يرفع كلتا يديه مثل قائد أوركسترا ويحركهما كإشارة
لبدء رقصة السماح ثم يظل في مكانه ،تؤدي مجموعة الشيوخ رقصة السماح على الطريقة التقليدية
فترة تحددها إشارة الرجل الأصفر اللاحقة ، وبإشارة منه أيضا تبدأ مجموعة الشباب أداء
رقصة السماح بطريقة حديثة بينما الرجل الأصفر في وقفته بلا حراك حتى يكرر الإشارة بالتوقف
والبدء بالرقص من قبل المجموعتين معا ، يرقصون ويرقصون ثم يندمجون في رقصهم مع الرجل
الأصفر كل في مكانه ، المجموعة الأولى على يمينه والمجموعة الثانية على يساره. ) .
عودة الحياة
هكذا
يقدم لنا الانباري طبيعة المشهد في بدايته، بل ثيمة القصة والحكاية في مطلعها وبزوغها
من اجل ان يبني لاحقا تطورات الاحداث راسما بالحركات كل عناصر المشهد وتفاصيله ، ومن
اجل ان يذهب الى الخطوة التالية في كشف الاتي يمنح الكاتب الشخصية الرئيسية الرجل الأصفر
دوره البالغ في فتح مغاليق رقصه والتي بامكانه ان يرويها دونما كلمات ( من خلال تفعيل
النسق الحركية والايمائية التي تضمنها مسار القصة ) ، فبعد ان يكدر صفوهم ورقصتهم وانسجامهم
أصوات الرصاص القادم من كل الجهات يمنحهم الإشارة بمعاودة الرقص ، معاودة الحياة، ومعاودة
المحبة ، والنهوض ، بل ان يزحفوا بكل الاتجاهات الى ان يتوقف صوت الرصاص .
وهل
تكتفي القوى الخارجية بهدير الرصاص لمنع ووقف رقصة السماح والحياة ،لا ، لان عاصفة
هوجاء تضرب بالراقصين تهزهم بعنف وتحاول اسقاطهم ورغم قوتها وعنفها يقفون من جديد ،
ويعانق بعضهم بعضا لينسحب الرجل الأصفر الى دكة تراثيه حلبية ليقوم مقام الراوي الذي
يذكر بتاريخ مضى من تسلط وديكتاتورية ماضية تسلطت بجلاديها على رقاب الناس واخذت منهم
احمل السنوات ،وثمار الحياة الزاهرة .
ليست هناك تعليقات: