للمرة الاولى في سنتي الرابعة من العمر المح على رأس زقاقنا لوحة لطفل رضيع اخترق السهم نحره، والدم يسيل الى ترقوته، كان السواد شائعا في كل مكان، وقد غلفت الأعمدة الاسطوانية في شارع قبلة الحسين قرب بيتنا بالقماش الاسود، واستبدلت المصابيح الحمر بالمصابيح العادية.
آلمتني غمضة عين الطفل التي يشع منها الألم، عجبت لأن الناس يمرون بوجع الطفل الحزين ولا ينقذونه أو يلقون بالا له، كانت نسمات الهواء الباردة تحرك اللوحة فأشعر أن الطفل حيّ وسينزل من اللوحة بعد قليل ونلعب سوية.لم أصدق اللوحة فالطفل لا يمكن أن يؤذيه أحد في هذا العالم ، فأنا اشعر بالامان لأن عندي أب يبتسم لي كلما رآني ويحملني ويلاطفني، الا هذا الطفل ، أين مضى عنه أبوه.
كنت قد رأيت كثيرا من الصور، بعضها فيه حياة تتحرك وبعضها رسومات ، الا هذه الصورة فقد جعلتني ارتاب في محبة الناس للأطفال، ومنذ تلك اللحظة خشيت أن اشهد موت الاطفال.
أرتبت في كل شيء إلا في محبة أبي لي.
في الزقاق ذاته شهدت مقتل أفعى طاردها رجل ونحن خلفه سرب أطفال كانت تلوذ بالجدران ولكن عصا الرجل الغليظة جاءت على رأسها فتلوّت بألم وانقلبت فبانت بطنها البيضاء والتمعت في بقعة الشمس كانت طويلة جدا وغليظة وظهرها رماديا لكن بطنها بيضاء اخذها الرجل من ذيلها ومضى تاركا فينا القشعريرة والخوف والاشمئزاز.
بعد يوم واحد كنت في رأس سوق العرب تحت منبر عبد الزهرة الكعبي وهو يقرأ مقتل الحسين وسط الزحام والبكاء والعويل كان صوته يجعل الكلمات حمامات بيض وهو يسرد الواقعة كنت اشم غبار المعركة وحمحمة الخيول التفاصيل كلها غزتني وانا مستسلم لسحر الكلمات وصوت عبد الزهرة عرفت ان الناس يبكون لمقتل الحسين كما شهدتهم في سنة سابقة وكان أبي يحملني لكن كلمة (فرحا)رنّت في أذني كقطعة ماس وأذهلتني حين أنشد عبد الزهرة البيت:
لأهلّوا واستهلّوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشلْ.
كان صوته يغطي المدينة صافيا رائقا مؤثرا.
لكن هذه الصورة أذهلتني اكثر صورة أخرى جعلتني أشك بالمسافة بين الكلام في نظمه ونثره ان الكلمات ترسم وتحرك كل شيء.
انها في نداء ناداه المهاجر بن أوس التميمي: ياحسين، الا ترى الى الماء يلوح كأنه بطون الحيّات، والله لا تذوقه أو تموت.
فقال الحسين عليه السلام: اني لأرجو أن يوردنيه الله ويحلئكم عنه.
الماء يتموج كبطون الحيات منذ الرابعة من العمر لم تفارقني هذه الصورة كلما وقفت على نهر تغدو عليه الريح الشرقية رأيت ملايين من بطون الحيات ولم احتج في قراءتي ان افهم ان هذه الكاف تقود المشبه والمشبه به إلى منطقة من الحس يتآلفان فيها أو يندمجان تماما.
الكلمات قالت لي منذ الرابعة من العمر .تعال واصنع ما تشاء منا فنحن بطون حيات لامعة ولا تخف أي عطش. نحن الكلمات. لكي ننمو ونتكاثر ونصور. ضربوا طفلا رضيعا بسهم اخترق نحره على رأس زقاقكم.
نحن الكلمات بطون حيّات. تعال لسحرنا يا ولد تعال.

ليست هناك تعليقات: