*
واثق محمد
ولئن كان كلامنا جارياً عن العامية في الوطن العربي على وجه العموم فان لنا وقفة نتلبث فيها عند عامية العراق ... اذ هي لهجة قطرنا ، وسمة لعراقنا وملمح من ملامحه ، وهي لهجة ما زالت تحمل من فحولة الفصحى طرفاً غير مذكور وتحتفظ بحظ من الفصاحة ظاهر ، وتتسم بطابع عروبي يطل من قسماتها وملامحها ويميزها عن سائر اللهجات العربية الاخرى .
ان الناظر الى هذه اللهجة يقع في روعه لاول وهلة انها لهجة واحدة تحكم عملية التفاهم والتخاطب بين العراقيين جميعاً ، بالفاظها يتكلمون وبها يتحدثون ، لكن المتمعن الممحص تنكشف له حقائق اخرى غير ما بدا له بادئ الامر ، اذ يلفي ان هذه اللهجة تختلف وتتباين بين صقع وصقع ومنطقة واخرى ، فقد تفردت كل منطقة باسلوبها وتمايزت بالفاظها واختلفت في سماتها ، فهي ليست لهجة واحدة بل (لهجات) يمكن توحيدهن وحصرهن جميعاً بثلاث رئيسات مختلفات في ملامحهن متباينات في خصائصهن ... وان اعم تلك اللهجات واوسعهن انتشاراً هي (اللهجة العشائرية العربية) التي ما زالت تحمل ما يوافق الطبيعة العربية المتصفة بمظاهر الرجولة والصراحة والاصوات الجهرية التي تلقي في روع السامع الاحساس بالشجاعة وتوحي بمعاني البذل والعطاء ... ومن ابرز السمات اللغوية لهذه اللهجة قلبها حرف القاف كافاً اعجمية ، وقلبها حرف الكاف بلفظ الكشكشة التي كانت على السنة بعض العرب قديماً ، وان هذه اللهجة تتفرع الى فرعين اثنين ونوعين متمايزين بعض الشيء :
الاول منهما : (لهجة عشائر شرقي العراق ووسطه وجنوبيه) ومعظم مدنه ومنها مدينة بغداد .
لهجة الشمال
اما الفرع الثاني منهما فهو : (لهجة عشائر شمالي العراق وشماله الغربي) وبين هذين النوعين سمات مميزة ظاهرة ... منها ان كل واحدة منهما تختلف عن الاخرى في المدارج الصوتية وتختلف عنها في صيغ التعبير واتخاذ الالفاظ التي تعارفت عليها وتواضعت على استعمالها كل واحدة منهما ...مع ظاهرة جوهرية تميز بينهما الا وهي : ان لهجة الفرع الاول ومنهم الناطقون بالبغدادية : تكون الحروف التي تسبق الضمير (الهاء) في الافعال والاسماء والظروف وسواها مفتوحة على السنتهم ... فهم يقولون : «اسمه» بفتح الميم و»صوته» بفتح التاء وكتابه بفتح الباء التي تسبق الضمير الغائب (الهاء) وهلم جرا ... اما الحال في لهجة الفرع الثاني اي عرب شمالي العراق وشماله الغربي فيكون الحرف الذي يسبق ضمير الغائب (الهاء) مضموماً كما في سائر اللهجات في الوطن العربي ، فهم يقولون «اسمه» بضم الميم و»صوته» بضم التاء و»كتابه» بضم الباء ، وقس على ذلك سائر الكلمات الاخرى ، وهذه سمة ظاهرة تميز بين اللهجتين الشقيقتين اللتين ترجعان الى عائلة لغوية واحدة .
ولئن كنا قد بينا ان الفرع الاول من اللهجة العشائرية العربية يسود شرقي وجنوبي ووسط القطر ومدنه ومنها بغداد ، فأن لهجة الفرع الثاني منها تعم عرب شمالي العراق وشمالي غربه وجزءاً من غربيه وهي مناطق عشائر وريف محافظة نينوى وعشائر وريف محافظة صلاح الدين ومحافظة التأميم وجزءاً من محافظة الانبار .
لهجة بغداد
ولعل لهجة بغداد (التي هي من عائلة الفرع الاول من اللهجة العشائرية) تعد نوعاً مميزاً فيها لما تتسم به من تأنق الالفاظ بعض الشيء ورقة في النطق وميل الى التحول الى لهجة مدنية حضرية ، وما يلاحظ فيها من انها سائرة نحو التخلي عن كثير من الالفاظ التي تنسب الى اصول غير عربية ... كما يلوح ان البغداديين في الايام الاخيرة اخذوا يحدون من قلب الكاف بلفظ الكشكشة المعروف عند بعض القبائل العربية قديماً ، لثقل النطق به ، وتجافيه عن الفصحى وعسره في اللسان ، وهو مما يكثر في اللغات الاخرى ، كما اخذوا يكثرون من نطق القاف قافاً عربية وكان ذلك نادراً في لهجتهم قليلاً في لسانهم الا في مفردات معدودة .
تلك هي ملامح مبتسرة من اللهجة التي وصفناها بانها اكثر شيوعاً واشد ذيوعاً على السنة العراقيين امس واليوم بفرعيها المذكورين .
العامية الحضرية
اما اللهجة العامية الثانية فهي اللهجة (الحضرية) او المدنية والتي تختلف اختلافاً بيناً وظاهراً عن اللهجة الاولى ، وهي مدعاة انتباه العراقيين اذا هم سمعوا الناطقين بها مما تعد غريبة على الاسماع بعض الشيء على الرغم مما تحفل به من سمات الفصاحة العربية ، ويتكلم بهذه اللهجة سكان مدينة الموصل وسكان مدينة تكريت وتقترب منهما الدور وعانة وهيت ، ولهجات هذه المناطق من عائلة واحدة متماثلة متقاربة ... مع ملاحظة التجانس الكبير وصلة القربى الوثيقة بين لهجتي كل من مدينة تكريت ومدينة الموصل ، حتى لتكاد اللهجتان تكونان لهجة واحدة في سماتهما وخصائصهما ، ولا سيما ما فيهما من تماثل في الاحتفاظ بحرف القاف ونطقه قافاً عربياً فصيحاً ، وهو مما تحمد عليه هذه اللهجة التي ابقته سليماً على اللسان واضحاً في البيان ، في حين اهملته سائر اللهجات العربية وابدلته بحروف اخرى اختيرت حسب توافقها مع خصائص لهجاتهم ... كما تتسم هذه اللهجة بظاهرة قلب حروف الراء غيناً والاتجاه نحو امالة الالف وهي معروفة قديماً في اللسان العربي الفصيح ... وعليها شواهد في بعض من آي الذكر الحكيم ... ولئن اسمينا هذه اللهجة (بالحضرية) فلأنها تتسم بالطابع الحضري الذي تختص به لهجات المدن ولا يألفه اللسان في المجتمع العشائري ، لا بل نذهب الى ابعد من ذلك فنقول انها تسمية تطلقها العشائر على الناطقين بها حين يسمونهم بلهجتهم العربية (اهل الحضير) اي اهل الحواضر والمدن ...

ليست هناك تعليقات: